يرى يوفال بلومبيرغ أن الفارق بين معسكري اليمين واليسار في إسرائيل، من حيث استقرار القيادة، صارخ. فمنذ انتخابات عام 1996 وحتى 2022، احتفظ معسكر اليمين بقيادة مركزية ومستمرة تمثلت في بنيامين نتنياهو، باستثناء فترة قصيرة قاد فيها أريئيل شارون بين عامي 2000 و2005.
أما اليسار، فعلى النقيض، تنقّل بين ما يقارب عشرين قائدًا مختلفًا، دون أن ينجح أي منهم في ترسيخ نفسه كزعيم متفق عليه لأكثر من ولاية واحدة، حتى على مستوى المعارضة.
يشير بلومبيرغ إلى أن هذه الهشاشة القيادية لم تكن سمة ملازمة لليسار دائمًا. فبين عام 1948 و1996، كان لهذا المعسكر زعماء مستقرون ومجمع عليهم، من دافيد بن غوريون إلى يتسحاق رابين. ويطرح الكاتب سؤالًا محوريًا: ما الذي أدى إلى هذا الانهيار المستمر في قيادة اليسار منذ مطلع الألفية؟
بحسب تحليله، لا يمكن فهم الأزمة دون العودة إلى الحدث المفصلي الذي غيّر وجه حزب العمل: اتفاقيات أوسلو. قبل هذه الاتفاقيات، كان حزب العمل يُصنَّف كحزب يسار-وسط صهيوني، وكانت مواقفه، حتى مع سعيه لحلول وسط إقليمية، ترفض بوضوح فكرة الدولة الفلسطينية أو تقسيم اورشليم القدس.
ويستشهد الكاتب بما كتبه الصحفي يارون لندن في 1993 حول التحول التدريجي داخل الحزب، وبما قاله يوسي بيلين في 2008، عن أن أفكار أحزاب صغيرة كـ"راتس" و"مبام" و"شينوي" باتت تمثل الموقف السائد، بعد أن كانت منبوذة في زمن غولدا مئير.
في رأي بلومبيرغ، كانت اتفاقيات أوسلو لحظة الانفصال الكبرى عن الهوية الصهيونية التي شكّلت عمود الحزب الفقري، ليبدأ انزلاق الحزب نحو مناطق اليسار المتطرف. وهنا يصف إيهود باراك، آخر زعماء الحزب الذين نجحوا في الوصول إلى الحكم، بأنه كان نجمًا محترقًا، طالت مدة احتراقه أكثر مما استمر بريقه. ويضيف أن سياسة باراك الاندفاعية و"المتهورة" في تسليم المناطق، خيّبت آمال الناخبين، الذين وجدوا في أريئيل شارون – رغم انسحابه لاحقًا من غزة – بديلًا يبدو أكثر صلابة في الملفات الأمنية.
ويتابع الكاتب مشوار الانحدار في القيادة مع شخصيات كشيلي يحيموفيتش، التي يرى أن مواقفها الاجتماعية كانت تميل إلى "الشيوعية"، ثم ميراف ميخائيلي، التي تمثل برأيه أقصى ما وصل إليه تيار "الووك" الأمريكي من أفكار هزيلة ومثيرة للسخرية. كما لم ينجح أي من يائير لبيد أو بني غانتس في التحول إلى زعيم قادر على احتواء المعسكر.
يذهب بلومبيرغ إلى أبعد من ذلك في تحليله، ويرى أن الانزلاق نحو أفكار راديكالية تسبّب بانسلاخ اليسار عن الصهيونية كعنصر جامع، واستبداله بشعار "السلام" الذي انهار فعليًا بعد سنوات قليلة فقط، مع اندلاع الانتفاضة الثانية. منذ تلك اللحظة، فقد اليسار الإسرائيلي مرجعيته الأيديولوجية، وعجز عن تجميع قواه حول فكرة مشتركة أو زعامة مقبولة.
ومع اندلاع الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو في السنوات الأخيرة، يرى الكاتب أن اليسار حاول أن يجعل من "الديمقراطية" شعارًا موحدًا، لكنه شعار كوني وعام، لا يتصل بجذر وطني عاطفي، ولا يُعبّر عن هوية يهودية أو إسرائيلية متجذرة. وبغياب مرجعية وطنية عميقة، لم يتمكن هذا الشعار من شحذ الجماهير خلفه، خاصة مع الطابع العنيف الذي اتسمت به التظاهرات، من إغلاق الطرق، وتخريب الممتلكات، إلى التحريض على القتل، على حد وصفه.
بلومبيرغ يخلص إلى أن ما يوحد اليسار اليوم ليس الأمل، ولا مشروع بناء، بل مجرد كراهية الطرف الآخر. وهذه الكراهية، برأيه، لا يمكنها أن تصنع زعامة، ولا أن تنتج مشروعًا سياسيًا جامعًا. ولهذا، فإن أزمة القيادة في اليسار لا تزال قائمة، بل وتتعمّق مع الوقت، في ظل غياب رؤية صهيونية وطنية واضحة يمكن أن تتجسّد في شخص قائد يُجمع عليه المعسكر بأكمله