يبدأ عوفر غروزبيرد مقاله من سؤالٍ يراه مطروحًا باستمرار من قِبل مسؤولين سياسيين وعسكريين وإعلاميين، لكن دون إجابة حقيقية: لماذا نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في إيران ولبنان، بينما فشلت فشلًا ذريعًا في غزة؟ وبرأيه، فإن الجواب لا يكمن في المعطيات الأمنية أو المعلومات الاستخباراتية بحد ذاتها، بل في "المجال النفسي" الذي يجهله كبار القادة ويقللون من شأنه.
يستشهد غروزبيرد بمقابلة سابقة بين اللواءين في الاحتياط تمير هايمان وأهارون حليوه، أجريت عبر القناة 12، وفيها عبّر هايمان عن قلقه العميق من هذا الفشل، مؤكداً أن "جميع المعلومات كانت متوفرة"، لكن شيئًا ما حال دون رؤية الحقيقة. هذا "الشيء"، بحسب غروزبيرد، هو الضغط الجماعي داخل أروقة المؤسسة الأمنية. وقد عايشه بنفسه، حين شاهد قادة كبارًا يهزون رؤوسهم بالموافقة في الاجتماعات، دون أن يجرؤ أحد على مخالفة الإجماع السائد. الجميع يريد الحفاظ على منصبه أو نيل الترقية، ومن يغامر بالتعبير عن رأي مخالف، يفعل ذلك بلغة حذرة لا تخرج عن الرواية المقبولة، وهي أن "حماس مردوعة". حتى أولئك الذين لم يعبّروا عن مواقفهم، خرجوا من الاجتماعات محبطين.
ولشرح قوة تأثير هذا الضغط الجماعي، يقترح الكاتب تجربة تخيلية: أن يوضع عشرة باحثين من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في غرف منفصلة دون تواصل بينهم، ويُطلب منهم تحليل الوضع بناءً على المعطيات التي كانت متوفرة قبل 7 أكتوبر: من ميثاق حماس الذي ينص على إقامة دولة إسلامية من البحر إلى النهر، إلى التدريبات المستمرة، والتعليم المنهجي للكراهية، وإطلاق النار المتكرر رغم الأثمان التي تدفعها غزة، والتسلح الكثيف، وبناء الأنفاق، ووثيقة "سور أريحا" التي فصّلت خطة الاجتياح... فهل كان أيٌّ منهم ليستنتج أن حماس مردوعة؟ يشكك غروزبيرد بذلك.
وبرأيه، فإن أصل هذا الانحراف في التقدير يعود إلى "رغبة دفينة مشتركة": القيادة السياسية أرادت أن تتباهى بأنها "ردعت حماس" لكسب الأصوات، والجيش أراد إرضاء القيادة والتفاخر بإنجازاته، والإعلام بدوره احتاج إلى مواد تبث التفاؤل وترفع نسب المشاهدة، ولن يُفسد الاحتفالية بتقارير مقلقة. بل إن الإعلام، كما يقول الكاتب، لا يزال حتى بعد المجزرة يستضيف بعض المسؤولين عن هذا الفشل كخبراء ومحللين دون أن يواجههم بأخطائهم، لا بدافع الانتقام بل بدافع الفهم والتعلم.
غروزبيرد يعترف بوجود أسباب إضافية للفشل، سبق أن فصلها في كتابه "نهاية دولة إسرائيل؟!" وفي رسالة تحذير وجّهها لكبار المسؤولين قبل وقوع المجزرة، وفيها توقّع الانهيار. لكنه يميز بين نوعين من العمل الاستخباراتي: ففي إيران ولبنان، يُنجز العمل بدقة جراحية، معتمدًا على معلومات دقيقة يتم تقاطعها من صور جوية وتنصت وتجسس مباشر – وهي نقاط تظهر فيها تفوق التكنولوجيا الإسرائيلية. لكن غزة، برأيه، تتطلب شيئًا آخر: فهم نوايا العدو، وهذا ميدان ذهني ونفسي، لا تكنولوجي.
ويقر غروزبيرد بأن التقدير بأن "حزب الله مردوع" أيضًا لم يكن مختلفًا كثيرًا عن خطأ التقدير بشأن حماس، لكن "الصدفة" وحدها حالت دون أن يهاجم الحزب من الشمال بالتزامن مع هجوم غزة، ويقترح شكر "الحظ" الذي أنقذ إسرائيل من كارثة أوسع.
في ختام مقاله، يشدد الكاتب على أن بناء شعبة الاستخبارات يجب أن يتم بطريقة تحصّن التفكير الفردي وتمنع سحقه تحت سطوة الجماعة. لا بد من العودة إلى النموذج الأكاديمي: على كل باحث أن يصوغ استنتاجه الشخصي أولًا، من دون ضجيج النقاشات الجماعية، ثم يأتي دور التبادل والنقاش. فكما يتعلم الطفل حلّ مسائل الرياضيات بمفرده، كذلك يجب أن يكون مسار التفكير الاستخباراتي: البداية دائمًا في الصمت الفردي الصافي، قبل المقارنة والمراجعة.
يعتبر غروزبيرد أن امتلاكه لرؤية مختلفة قبل المجزرة يعود إلى كونه متقدمًا بعقدين على معظم كبار الضباط في الشعبة، ولا يعتمد عليها في رزقه أو مسيرته المهنية، إضافة إلى خلفيته كعالم نفس سريري، معتاد على الإنصات لصوته الداخلي. كان يشعر بما وصفه بـ"الزيف" و"الإرضاء المصطنع" من حوله، وقد قال له بعض القادة عند مغادرته "إذا غادرت، انتهينا!" – ولم يكن يدرك حينها كم كانوا على حق.
باختصار، يدعو غروزبيرد إلى إعادة تشكيل منظومة التفكير في الاستخبارات من الأساس، لا بمنطق الانضباط، بل بمنطق الإبداع والاستقلال الذهني. التفكير الفردي ليس رفاهية بل ضرورة أمنية.