بعد سنواتٍ ثقيلة عاشتها البلدة الجليلية تحت ظلال الرصاص، تخرج بلدة دير حنا اليوم من عنق الزجاجة، محاولةً كتابة فصلٍ جديد من الأمان بعد أن أنهكتها الخلافات ودوامات العنف.
دموعٌ وأمل في قاعة واحدة
في مشهدٍ استثنائي اختلطت فيه المشاعر، اجتمعت دير حنا على كلمة واحدة: كفى دمًا. وبعد نزاعٍ دامٍ لسنوات بين عائلتي حسين وشحادة، وخلّف أربعة قتلى وعددًا من الجرحى، اختار الطرفان أن ينحازا إلى الحياة، بعد أن خسر الجميع.
خطوات المصافحة… أثقل من الرصاص
فور دخول أبناء عائلة شحادة إلى القاعة، وقد اصطف أبناء عائلة حسين إلى جانب رجال الإصلاح، عمّ الصمتُ المكان، وساد ترقّبٌ مشوب بالرهبة.
في لحظةٍ خاطفة… امتدت الأيادي، وتعانقت الأرواح المتعبة من وجع السنين. كانت لحظةً بدا أنها أغلقت جرحًا ظلّ مفتوحًا طيلة سنوات.
وجوه الغياب… لا تُنسى
خالد حسين، أحمد حسين، أشرف حسين، وعدنان شحادة… أربعةُ أسماء تحوّلت إلى وجعٍ دائم في وجدان دير حنا. لم يكن الخلاف بين عائلتين فقط، بل بين مجتمعٍ بكامله وأملٍ حاول النجاة.
رصاصُ الخصام لم يقتلهم وحدهم، بل اخترق الجدران، وأربك صباحاتٍ كان يفترض أن تكون عادية.
حين يتقدم صوت العقل
مع لحظة المصالحة، تراجع صدى الرصاص وتقدّم صوت الحكمة. وقف رجال الإصلاح، وإلى جانبهم قيادات من سخنين وعرابة وعيلبون، ليؤكدوا أن ما حدث لم يكن مجرد صلح، بل إعلان جماعي بأن النزيف يمكن أن يتوقف… وأن جراحنا ليست أبدية، إن التقينا على نية الإصلاح.
“أنا أبكي فرحًا… وأبكي حزنًا”
بهذه الكلمات المؤثرة، خاطب الشيخ هاشم عبد الرحمن – أحد رجال الإصلاح – الحضور، قائلاً:
“أبكي فرحًا لهذا المشهد، وأبكي حزنًا على ما نعيشه كمجتمع… لماذا يا شباب؟ لماذا تفعلون ذلك بنا؟ نحن نستحق الحياة، وشبابنا يستحقون فرصة لمستقبل أفضل. إن كنا جميعًا على طريق الموت، فلنترك أثرًا جميلاً في الحياة.”
ودعا الشيخ إلى إطلاق مبادرة مجتمعية تنطلق من دير حنا، تحمل اسم يوم السلام المجتمعي:
“أقولها للمسؤولين، للجالسين أمامي: مازن غنايم، رؤساء البلديات، لجنة المتابعة، رؤوس الأحزاب والقبائل… تحركوا. اللد تحترق، أم الفحم تنزف، الناصرة وسخنين بخطر. آن الأوان لمبادرة تمتد من الجنوب حتى الشمال، تجمع السياسيين والعشائر والمؤثرين… لنُعيد لمجتمعنا الأمان”.
الرئيس يتحدث: “الفترة كانت صعبة جدًا”
في مقابلة خاصة، سألنا رئيس مجلس دير حنا المحلي السيد سعيد حسين عن صعوبة المرحلة التي سبقت هذا اليوم، فقال:
“نعم، كانت فترة صعبة وصعبة جدًا… وكل شيء يأخذ وقته وزمنه المناسب.”
ووجّه شكره للجنة الصلح التي رافقت هذه المسيرة:
“كل الشكر للجاهة الكريمة التي بذلت جهدها، وربطت الليل مع النهار لكي نتوصل إلى هذه اللحظة.”
الوثيقة… وعد بالسلام
الوثيقة التي وُقعت في ختام اللقاء أنهت رسميًا كل أشكال العداء بين العائلتين، بعد هدنة استمرت ثلاثة أشهر، مهّدت لهذه اللحظة الحاسمة التي استقبلها أبناء البلدة بمزيج من الراحة والحذر.
من خارج دير حنا… تضامن وأمل
حفل الصلح شهد حضورًا واسعًا من خارج أسوار دير حنا، في إشارة إلى رمزية الحدث وتأثيره الإقليمي.
ومن بين المشاركين، تحدّث السيد زعبي من بلدة الناعورة قائلًا:
“نسأل الله تعالى أن تكون هذه الصلحة فاتحة خير على وسطنا العربي، لكي نحافظ على أرضنا وعِرضنا ودمائنا، ونبقى متحابين، ونعيد النسيج الاجتماعي لمجتمعنا، ونعيش بأمن وأمان وسِلم وسلام”.
سلامٌ مؤقت… وأزمات مستمرة
ورغم أن دير حنا طوت صفحة دامية من تاريخها، إلا أن مشاهد مماثلة لا تزال تتكرر في بلدات عربية أخرى. القتل مستمر، والنزاعات المتفرعة تنهش مجتمعًا بأكمله، وسط فشلٍ واضح في ردع الجريمة.
التحدي لا يزال وجوديًا… والعنف، للأسف، لم يقل كلمته الأخيرة بعد.